كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَالَ الرَّاغِبُ: النَّجَاسَةُ الْقَذَارَةُ وَذَلِكَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يُدْرَكُ بِالْحَاسَّةِ، وَضَرْبٌ يُدْرَكُ بِالْبَصِيرَةِ. وَالثَّانِي: وَصَفَ اللهُ بِهِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ وَيُقَالُ: نَجَّسَهُ إِذَا جَعَلَهُ نَجِسًا، وَنَجَّسَهُ أَيْضًا أَزَالَ نَجَسَهُ، وَمِنْهُ تَنْجِيسُ الْعَرَبِ، وَهُوَ شَيْءٌ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ تَعْلِيقِ عَوْذَةٍ عَلَى الصَّبِيِّ لِيَدْفَعُوا عَنْهُ نَجَاسَةَ الشَّيْطَانِ. وَالنَّاجِسُ وَالنَّجِيسُ دَاءٌ خَبِيثٌ لَا دَوَاءَ لَهُ. اهـ.
أَقُولُ: لَا تَزَالُ سَلَائِلُ الْعَرَبِ فِي الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ يَقُولُونَ: فُلَانٌ نَجَسٌ بِمَعْنَى خَبِيثٍ ضَارٍّ مُؤْذٍ. كَمَا أَنَّ الْجَاهِلِينَ مِنْهُمْ بِالْإِسْلَامِ لَا يَزَالُونَ يُعَلِّقُونَ التَّنَاجِيسَ وَالتَّعَاوِيذَ عَلَى الْأَوْلَادِ لِوِقَايَتِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْعَيْنِ الْخَبِيثَةِ مِنَ الْإِنْسِ، وَكَذَلِكَ الْعِبْرَانِيُّونَ يُسَمُّونَ الدَّاءَ الْعُضَالَ نَجَسًا وَصَاحِبَهُ نَجَسًا وَشِفَاءَهُ طَهَارَةً.
وَظَاهِرُ كَلَامِ الرَّاغِبِ وَغَيْرِهِ أَنَّ إِطْلَاقَ النَّجَسِ عَلَى الْقَذَرِ وَالْخُبْثِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا وَهُوَ الَّذِي أَفْهَمُهُ، وَمِنْهُ الْمَعَاصِي وَالدَّاءُ الْعُضَالُ، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قِسْمِ الْحَقِيقَةِ، وَنَقَلَ قَوْلَ الْحَسَنِ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً كَانَ قَدْ زَنَى بِهَا: هُوَ أَنْجَسَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَقَوْلُهُمْ فِي الدَّاءِ، وَذَكَرَ مِنْهَا شَاهِدًا فِي الْبَيْتِ قَوْلَ سَاعِدَةَ بْنِ جُؤْيَةَ:
وَالشَّيْبُ دَاءٌ نَجِيسٌ لَا دَوَاءَ لَهُ ** لِلْمَرْءِ كَانَ صَحِيحًا صَائِبَ الْقَحْمِ

وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: أَيْ هُوَ دَاءُ عَيَاءٍ لِلرَّجُلِ الصَّحِيحِ الْجَلِدِ الَّذِي إِذَا تَقَحَّمَ فِي الشَّدَائِدِ أَصَابَ فِيهَا وَلَمْ يُخْطِئْ.
(قَالَ) وَمِنَ الْمَجَازِ النَّاسُ أَجْنَاسٌ، وَأَكْثَرُهُمْ أَنْجَاسٌ، وَنَجَّسَتْهُ الذُّنُوبُ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ وَتَقُولُ: لَا تَرَى أَنْجَسَ مِنَ الْكَافِرِ، وَلَا أَنْجَسَ مِنَ الْفَاجِرِ. اهـ.
هَذَا تَحْقِيقُ مَعْنَى النَّجَسِ وَالنَّجَاسَةِ فِي اللُّغَةِ. وَأَمَّا فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ. فَالنَّجَسُ مَا يَجِبُ التَّطْهِيرُ لِمَا يُصِيبُهُ سَوَاءٌ أَكَانَ قَذِرًا فِي الْحِسِّ كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، أَمْ لَا كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِنَجَاسَةِ أَعْيَانِهَا وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ. وَمِنْ ثَمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ بِنَجَاسَةِ أَعْيَانِ الْمُشْرِكِينَ، وَوُجُوبِ تَطْهِيرِ مَا تُصِيبُهُ أَبْدَانُهُمْ مَعَ الْبَلَلِ.
وَحُكِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمَالِكٍ وَعَنِ الْهَادِي وَالْقَاسِمِ وَالنَّاصِرِ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِتْرَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الظَّاهِرِيَّةِ وَالشِّيعَةِ الْإِمَامِيَّةِ. وَجُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى خِلَافِهِ وَمِنْهُمْ أَهْلُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْآيَةُ لَيْسَتْ نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا رَاجِحًا فِيهِ، وَالسُّنَّةُ الْعَمَلِيَّةُ لَا تُؤَيِّدُهُ بَلْ تَنْفِيهِ، وَلَاسِيَّمَا قَوْلُ مَنْ يَجْعَلُ أَهْلَ الْكُتُبِ مُشْرِكِينَ كَالْإِمَامِيَّةِ، فَإِنَّ إِبَاحَةَ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ نَزَلَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ، فَهِيَ بَعْدَ سُورَةِ التَّوْبَةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِبَاحَتُهُمَا تَسْتَلْزِمُ طَهَارَتَهُمَا.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ الْقَطْعِيِّ لِكُلِّ مُطَّلِعٍ عَلَى السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَتَارِيخِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ بِالضَّرُورَةِ، أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يُعَاشِرُونَ الْمُشْرِكِينَ وَيُخَالِطُونَهُمْ وَلَاسِيَّمَا بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، إِذَا امْتَنَعَ اضْطِهَادُ الْمُشْرِكِينَ وَتَعْذِيبُهُمْ لِمَنْ لَا عَصَبِيَّةَ لَهُ، وَلَا جِوَارَ يَمْنَعُهُ مِنْهُمْ، وَكَانَتْ رُسُلُهُمْ وَوُفُودُهُمْ تَرِدُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَدْخُلُونَ مَسْجِدَهُ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْكِتَابِ كَنَصَارَى نَجْرَانَ وَالْيَهُودِ، وَلَمْ يُعَامِلْ أَحَدٌ أَحَدًا مِنْهُمْ مُعَامَلَةَ الْأَنْجَاسِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِغَسْلِ شَيْءٍ مِمَّا أَصَابَتْهُ أَبْدَانُهُمْ، بَلْ رُوِيَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ مِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْجُمْهُورُ عَلَى طَهَارَةِ أَبْدَانِهِمْ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ، وَأَكَلَ مِنْ طَعَامِ الْيَهُودِ، وَرَبَطَ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ وَهُوَ مُشْرِكٌ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، وَمِنْهَا إِطْعَامُهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ لِلْوَفْدِ مِنَ الْكَفَّارِ وَلَمْ يَأْمُرْ صلى الله عليه وسلم بِغَسْلِ الْأَوَانِي الَّتِي كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ فِيهَا، وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَنُصِيبُ مِنْ آنِيَةِ الْمُشْرِكِينَ وَأَسْقِيَتِهِمْ فَنَسْتَمْتِعُ بِهَا وَلَا يَعِيبُ ذَلِكَ عَلَيْنَا.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِنَجَاسَةِ الْكَافِرِ بِمَفْهُومِ حَدِيثِ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ وَقَدْ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَاءَ بِلَفْظِ. الْمُسْلِمُ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَهُوَ مَفْهُومُ لَقَبٍ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَقُولُ بِهِ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ الْأَمْرِ بِغَسْلِ آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْأَكْلِ فِيهَا إِنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ، وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو دَاوُدَ عِلَّتَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَكَذَا حَدِيثُ إِنْقَاءِ أَوَانِي الْمَجُوسِ غَسْلًا وَالطَّبْخِ فِيهَا، وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْأَمْرِ بِالنَّظَافَةِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَجَاسَةِ أَعْيَانِ النَّاسِ بِمَعْنَى الْقَذَرِ الَّذِي يُزَالُ بِالْغَسْلِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ لَفْظَ النَّجَسِ فِي الْقُرْآنِ جَاءَ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْعَرَبِ لَا بِالْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَصِفُ بَعْضَ النَّاسِ بِالنَّجَسِ، وَتُرِيدُ بِهِ الْخُبْثَ الْمَعْنَوِيَّ كَالشَّرِّ وَالْأَذَى، وَإِلَّا لَمَا وَصَفُوا بِهِ بَعْضَ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِ الْأَسَاسِ النَّاسُ أَجْنَاسٌ، وَأَكْثَرُهُمْ أَنْجَاسٌ، وَلَا يُطْلِقُونَ النَّجَسَ بِمَعْنَى الْقَذَرِ الَّذِي يُطْلَبُ غَسْلُهُ، حَتَّى إِذَا زَالَ سُمِّيَ طَاهِرًا إِلَّا فِيمَا يُدْرَكُ قَذَرُهُ وَخُبْثُهُ بِالْحِسِّ كَالرَّائِحَةِ الْقَبِيحَةِ.
هَذَا هُوَ الْحَقُّ الظَّاهِرُ. وَمَا أُفِكَ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ إِلَّا بِتَحْكِيمِ الِاصْطِلَاحَاتِ الْفِقْهِيَّةِ وَغَيْرِهَا فِي اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ الْفُصْحَى الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَمِنَ الْغَرِيبِ أَخْذُ الرَّازِيِّ الشَّافِعِيِّ الْمَذْهَبِ بِالْقَوْلِ الشَّاذِّ الْمُخَالِفِ لِلْحِسِّ، وَاسْتِعْمَالُ اللُّغَةِ فِي نَجَاسَةِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ بَيَانِ الشَّافِعِيِّ الْعَرَبِيِّ وَأَصْحَابِهِ لِبُطْلَانِهِ، وَقَدِ اتَّبَعَهُ الْآلُوسِيُّ فِي ذَلِكَ عَلَى سَعَةِ اطِّلَاعِهِ فِي الْفِقْهِ وَاللُّغَةِ وَكَانَ شَافِعِيًّا ثُمَّ صَارَ مُفْتِيًا لِلْحَنَفِيَّةِ. وَمَا أَطَلْتُ فِي هَذَا الْبَحْثِ اللُّغَوِيِّ، إِلَّا لِتَفْنِيدِ رَأْيِهِمَا حَتَّى لَا يَغْتَرَّ بِهِ أَحَدٌ فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي صَارَ فِيهِ الْكَثِيرُونَ مِنَ الشُّعُوبِ غَيْرِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَشَدَّ عِنَايَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِالنَّظَافَةِ الَّتِي جَعَلَهَا الْمُقَلِّدُونَ أَحْكَامًا تَعَبُّدِيَّةً، يُكَابِرُونَ فِيهَا الْحِسَّ وَاللُّغَةَ وَالْقِيَاسَ وَحِكْمَةَ الشَّارِعِ. وَيُوقِعُونَ مُقَلِّدِيهِمْ فِي أَشَدِّ الْحَرَجِ فِي السَّفَرِ، وَفِي عَدَاوَةِ الْبَشَرِ. إِذَا فَهِمْتَ هَذَا فَهَاكَ تَفْسِيرُ الْآيَةِ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} أَيْ: لَيْسَ الْمُشْرِكُونَ كَمَا تَعْلَمُونَ مِنْ حَالِهِمْ إِلَّا أَنْجَاسًا فَاسِدِي الِاعْتِقَادِ، يُشْرِكُونَ بِاللهِ مَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، فَيَعْبُدُونَ الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، وَيَدِينُونَ بِالْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ، وَلَا يَتَنَزَّهُونَ عَنِ النَّجَاسَاتِ وَلَا الْآثَامِ، وَيَأْكُلُونَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ مِنَ الْأَقْذَارِ الْحِسِّيَّةِ، وَيَسْتَحِلُّونَ الْقِمَارَ وَالزِّنَا مِنَ الْأَرْجَاسِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَيَسْتَبِيحُونَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ. وَقَدْ تَمَكَّنَتْ صِفَاتُ النَّجَسِ مِنْهُمْ حِسًّا وَمَعْنَى حَتَّى كَأَنَّهُمْ عَيْنُهُ وَحَقِيقَتُهُ، فَلَا تُمَكِّنُوهُمْ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ أَنْ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بِدُخُولِ أَرْضِ الْحَرَمِ فَضْلًا عَنْ دُخُولِ الْبَيْتِ نَفْسِهِ، وَطَوَافِهِمْ عُرَاةً فِيهِ، يُشْرِكُونَ بِرَبِّهِمْ فِي التَّلْبِيَةِ، وَإِذَا صَلَّوْا لَمْ تَكُنْ صَلَاتُهُمْ عِنْدَهُ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً- وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِنَجَاسَتِهِمْ تَلَبُّسُهُمْ بِهَا دَائِمًا لِعَدَمِ تَعَبُّدِهِمْ بِالطَّهَارَةِ كَالْمُسْلِمِينَ، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ بِأَنَّ الْمُرَادَ النَّجَاسَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ أَظْهَرُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَعَمُّ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِنَجَاسَةِ أَعْيَانِهِمْ فَهُوَ لَا مَعْنَى لَهُ فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ إِلَّا قَذَارَتَهَا الذَّاتِيَّةَ وَنَتْنَهَا، وَذَوَاتُ الْمُشْرِكِينَ كَذَوَاتِ سَائِرِ الْبَشَرِ بِشَهَادَةِ الْحِسِّ، وَمَنْ كَابَرَ شَهَادَةَ الْحِسِّ كَابَرَ دَلَالَةَ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ وَاللُّغَوِيِّ بِالْأَوْلَى، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ نَجَاسَةً تَعَبُّدِيَّةً إِلَّا بِنَصٍّ صَرِيحٍ فِي إِيجَابِ غَسْلِ مَا اتَّصَلَ بِهَا مِنَ الْبَلَلِ، وَهُوَ لَا وُجُودَ لَهُ، وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ خِلَافُهُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدِ اتَّبَعَ الْقَائِلُونَ بِهِ سُنَنَ بَعْضِ وَثَنِيِّ الْهِنْدِ، وَبَعْضِ مُتَعَصِّبِي النَّصَارَى الَّذِينَ يَعُدُّونَ كُلَّ مَنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ نَجَسًا، وَمَا هَذَا بِمَذْهَبٍ، وَلَكِنَّهُ مِنْ سَخَافَاتِ التَّعَصُّبِ، وَقَدْ كَانَ هَؤُلَاءِ وَلَا يَزَالُونَ يَرَوْنَ أَنَّ هَذِهِ الْمَعْمُودِيَّةَ تُغْنِي صَاحِبَهَا عَنِ الْغَسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ أَوْ مُطْلَقًا، وَحُكِيَ لَنَا عَنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ تَمُرُّ عَلَيْهِ الشُّهُورُ وَالْأَحْوَالُ وَلَا يَغْتَسِلُ فِيهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَيُعَلِّلُ بَعْضُ قُسُوسِهِمْ الْمُتَعَصِّبِينَ عِنَايَةَ الْمُسْلِمِينَ بِالطَّهَارَةِ مِنَ الْأَحْدَاثِ وَالْأَنْجَاسِ بِأَنَّ أَبْدَانَهُمْ يَخْرُجُ مِنْهَا الدُّودُ دَائِمًا لِعَدَمِ تَعَمُّدِهِمْ، وَقَدْ حَدَّثَنَا بَعْدُ فُضَلَاءُ الْمِصْرِيِّينَ أَنَّهُ كَانَ فِي فَرَنْسَةَ فَرَأَى أَنَّ غُلَامًا لِصَاحِبِ الْفُنْدُقِ الَّذِي كَانَ فِيهِ يَنْظُرُ فِي الْمَاءِ الَّذِي يَتَوَضَّأُ فِيهِ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ أَوِ اللُّغَوِيَّ ثُمَّ يَذْهَبُ إِلَى وَالِدَتِهِ فَيُوَشْوِشُهَا، فَلَمَّا تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ سَأَلَ وَالِدَتَهُ عَنْ ذَلِكَ وَمَا يَقُولُهُ لَهَا؟ فَتَمَنَّعَتْ فَأَلَحَّ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ يَقُولُ لَهَا يَا أُمِّي إِنَّنِي لَا أَرَى فِي الْمَاءِ الَّذِي يَغْسِلُ فِيهِ هَذَا الْمُسْلِمُ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ دُودًا كَمَا قَالَ لَنَا مُعَلِّمُنَا الْقِسِّيسُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دُخُولِ غَيْرِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْكُفَّارِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَبِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ لَخَّصَ أَقْوَالَهُمُ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ الْخَازِنُ بِبَعْضِ تَصَرُّفٍ وَبِغَيْرِ عَزْوٍ فَقَالَ: وَجُمْلَةُ بِلَادِ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
(الْقِسْمُ الْأَوَّلُ) الْحَرَمُ، فَلَا يَجُوزُ لِكَافِرٍ أَنْ يَدْخُلَهُ بِحَالٍ ذِمِّيًّا كَانَ أَوْ مُسْتَأْمَنًا لِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَمَالِكٌ، فَلَوْ جَاءَ رَسُولٌ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ وَالْإِمَامُ فِي الْحَرَمِ فَلَا يَأْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِ الْحَرَمِ، بَلْ يَخْرُجُ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ أَوْ يَبْعَثُ إِلَيْهِ مَنْ يَسْمَعُ رِسَالَتَهُ خَارِجَ الْحَرَمِ، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ لِلْمُعَاهِدِ دُخُولَ الْحَرَمِ.
(الْقِسْمُ الثَّانِي) مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ الْحِجَازُ وَحْدَهُ مَا بَيْنَ الْيَمَامَةِ وَالْيَمَنِ وَنَجْدٍ وَالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ، قِيلَ: نِصْفُهَا تِهَامِيٌّ وَنِصْفُهَا حِجَازِيٌّ، وَقِيلَ: كُلُّهَا حِجَازِيٌّ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: حَدُّ الْحِجَازِ مَا بَيْنَ جَبَلَيْ طَيِّئٍ وَطَرِيقِ الْعِرَاقِ، سُمِّيَ حِجَازًا؛ لِأَنَّهُ حَجَزَ بَيْنَ تِهَامَةَ وَنَجْدٍ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ حَجَزَ بَيْنَ نَجْدٍ وَالسَّرَاةَ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ حَجَزَ بَيْنَ نَجْدٍ وَتِهَامَةَ وَالشَّامِ. قَالَ الْحَرْبِيُّ: وَتَبُوكُ مِنَ الْحِجَازِ. فَيَجُوزُ لِلْكُفَّارِ دُخُولُ أَرْضِ الْحِجَازِ بِالْإِذْنِ، وَلَكِنْ لَا يُقِيمُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مَقَامِ الْمُسَافِرِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. (رَوَى مُسْلِمٌ) عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَلَا أَتْرُكُ فِيهَا إِلَّا مُسْلِمًا» زَادَ فِي رِوَايَةٍ لِغَيْرِ مُسْلِمٍ وَأَوْصَى فَقَالَ: «أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» فَلَمْ يَتَفَرَّغْ لِذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَأَجْلَاهُمْ عُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ وَأَجَّلَ لِمَنْ يَقْدَمُ تَاجِرًا ثَلَاثًا.
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَجْتَمِعُ دَيْنَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مُرْسَلًا.
(وَرَوَى مُسْلِمٌ) عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ» قَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: جَزِيرَةُ الْعَرَبِ مَا بَيْنَ الْوَادِي إِلَى أَقْصَى الْيَمَنِ إِلَى تُخُومِ الْعِرَاقِ إِلَى الْبَحْرِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: حَدُّ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مِنْ أَقْصَى (عَدَنِ أَبْيَنَ) إِلَى رِيفِ الْعِرَاقِ فِي الطُّولِ، وَمِنْ جِدَّةَ وَمَا وَالَاهَا مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ إِلَى أَطْرَافِ الشَّامِ عَرْضًا.
(الْقِسْمُ الثَّالِثُ) سَائِرُ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَيَجُوزُ لِلْكَافِرِ أَنْ يُقِيمَ فِيهَا بِعَهْدٍ وَأَمَانٍ وَذِمَّةٍ، وَلَكِنْ لَا يَدْخُلُونَ الْمَسَاجِدَ إِلَّا بِإِذْنِ مُسْلِمٍ. اهـ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِإِخْرَاجِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَلَّا يَبْقَى فِيهَا دِينَانِ، مَعَ بَيَانِ حِكْمَةِ ذَلِكَ فِي خَاتِمَةِ الْكَلَامِ عَلَى مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْيَهُودِ فِي السِّلْمِ وَالْحَرْبِ وَإِجْلَائِهِمْ مِنْ جِوَارِهِ فِي الْمَدِينَةِ، وَإِجْلَاءِ عُمَرَ لِيَهُودِ خَيْبَرَ وَغَيْرِهِمْ وَنَصَارَى نَجْرَانَ عَمَلًا بِوَصِيَّتِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم [ص51 ج10 ط الْهَيْئَةِ].
{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} الْعَيْلَةُ: الْفَقْرُ، يُقَالُ: عَالَ الرَّجُلُ يَعِيلُ عَيْلًا وَعَيْلَةً (كَكَالَ يَكِيلُ) إِذَا افْتَقَرَ فَهُوَ عَائِلٌ، وَأَعَالَ كَثُرَ عِيَالُهُ، وَهُوَ يَعُولُ عِيَالًا كَثِيرِينَ أَيْ يُمَوِّنُهُمْ وَيَكْفِيهِمْ أَمْرَ مَعَاشِهِمْ. وَنَكَّرَ الْعَيْلَةَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِهَا الَّتِي يَخْشَاهَا أَهْلُ مَكَّةَ، وَهِيَ مَا يَحْدُثُ مِنْ قِلَّةِ جَلْبِ الْأَرْزَاقِ إِلَيْهَا وَالْمَتَاعِ بِالتِّجَارَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَجْلِبُهَا الْمُشْرِكُونَ مِنْ تُجَّارِهَا، وَمِمَّنْ حَوْلَهَا مِنْ أَصْحَابِ الْمَزَارِعِ فِي شِعَابِهَا وَوِدْيَانِهَا وَمَا يَقْرُبُ مِنْهَا مِنَ الْبِلَادِ ذَاتِ الْبَسَاتِينِ وَالْمَزَارِعِ كَالطَّائِفِ، وَكَذَا مَا كَانُوا يَسُوقُونَهُ مِنَ الْهَدْيِ لِلْحَرَمِ، وَيَتَمَتَّعُ بِهِ فُقَرَاؤُهُ، فَأَزَالَ تَعَالَى مَا كَانُوا يَخَافُونَ مِنَ الْعَيْلَةِ بِقِلَّةِ مَوَادِّ الْمَعِيشَةِ إِذَا مُنِعَ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْمَجِيءِ إِلَيْهَا بِوَعْدِهِمْ بِأَنْ يُغْنِيَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ، وَفَضْلُهُ كَثِيرٌ فَقَدْ صَارُوا بَعْدَ الْإِسْلَامِ. وَمَنْعُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْحَرَمِ أَغْنَى مِمَّا كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَدْ جَاءَهُمُ الْغِنَى مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ، أَسْلَمَ أَهْلُ الْيَمَنِ فَصَارُوا يَجْلِبُونَ لَهُمُ الْمِيرَةَ، بَلْ أَسْلَمَ أُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يُمْنَعُ مِنَ الْحَرَمِ، وَلَا مِنَ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ تَفَجَّرَتْ يَنَابِيعُ الْغِنَى وَالثَّرْوَةِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَمَا سَيَأْتِي.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجِيئُونَ إِلَى الْبَيْتِ، وَيَجِيئُونَ مَعَهُمْ بِالطَّعَامِ يَتَّجِرُونَ فِيهِ، فَلَمَّا نُهُوا أَنْ يَأْتُوا الْبَيْتَ قَالَ الْمُسْلِمُونَ: فَمِنْ أَيْنَ لَنَا الطَّعَامُ؟ فَأَنْزَلَ الله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} إِلَخْ. قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ، وَكَثُرَ خَيْرُهُمْ حِينَ ذَهَبَ الْمُشْرِكُونَ عَنْهُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ تَأْكُلُونَ، وَقَدْ نُفِيَ الْمُشْرِكُونَ، وَانْقَطَعَتْ عَنْكُمُ الْعِيرُ؟ قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً}. إِلَخْ. فَأَمَرَهُمْ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَأَغْنَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. اهـ.
وَيَعْنِي هُنَا الْغَنَائِمَ، وَفِي مَعْنَاهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: أَغْنَاهُمُ اللهُ تَعَالَى بِالْجِزْيَةِ الْجَارِيَةِ. وَلَيْسَ الْمُرَادَ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى نَزَلَتْ وَحْدَهَا، فَلَمَّا قَالُوا مَا قَالُوا وَخَافُوا مَا خَافُوا مِنْ عَوَاقِبِهَا نَزَلَتِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ التَّالِيَةُ لَهَا، بَلْ نَزَلَتِ الْآيَةُ كُلُّهَا مَعَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً (كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهَا) وَكَانَ اللهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ أَنْفُسُهُمْ، وَمَا يُلْقِيهِ الْمُنَافِقُونَ وَالشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِ بَعْضِهِمْ مِنْ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنِ النَّهْيُ مَقْرُونًا بِهَذَا الْوَعْدِ، فَلَمْ يَدَعْ لِذَلِكَ مَجَالًا.
وَأَمَّا الْغِنَى مِنْ فَضْلِ اللهِ فَهُوَ أَعَمُّ مِمَّا وَرَدَ فِي الرِّوَايَاتِ مُعَيَّنًا وَمُبْهَمًا، فَقَدْ أَغْنَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَرَبِ السَّابِقِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْغِنَى، فَتَحَ لَهُمُ الْبِلَادَ، وَسَخَّرَ لَهُمُ الْعِبَادَ، فَكَثُرَتِ الْغَنَائِمُ وَالْخَرَاجُ، وَمَهَّدَ لَهُمْ سُبُلَ الْمِلْكِ وَالْمُلْكِ، وَبَسَطَ لَهُمْ فِي الرِّزْقِ، مِنْ إِمَارَةٍ وَتِجَارَةٍ وَزِرَاعَةٍ وَصِنَاعَةٍ، وَكَانَ نَصِيبُ مَكَّةَ نَفْسِهَا مِنْ ذَلِكَ عَظِيمًا بِكَثْرَةِ الْحَاجِّ وَأَمْنِ طُرُقِ التِّجَارَةِ.